كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَدْ يَرَى الشَّيَاطِينَ وَالْجِنَّ كَثِيرٌ مِنْ الْإِنْسِ لَكِنَّ لَهُمْ مِنْ الِاجْتِنَانِ وَالِاسْتِتَارِ مَا لَيْسَ لِلْإِنْسِ وَقَدْ قال تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقال لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقال إنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ} وَفِي التَّفْسِيرِ وَالسِّيرَةِ: أَنَّ الشَّيْطَانَ جَاءَهُمْ فِي صُورَةِ بَعْضِ النَّاسِ وَكَذَلِكَ قوله: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إذْ قال لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قال إنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ}. وَفِي حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ قُلْت: أولِلْإِنْسِ شَيَاطِينُ؟ قال: «نَعَمْ شَرٌّ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ». وَأَيْضًا فَالنَّفْسُ لَهَا وَسْوَسَةٌ كَمَا قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَهَذَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ لِنَفْسِهِ كَمَا يُقال حَدِيثُ النَّفْسِ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ. فَاَلَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ نُفُوسُهُمْ وَشَيَاطِينُ الْجِنِّ وَشَيَاطِينُ الْإِنْسِ. وَالْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ يَتَنَاوَلُ وَسْوَسَةَ الْجِنَّةِ وَوَسْوَسَةَ الْإِنْسِ وَإِلَّا أَيُّ مَعْنًى لِلِاسْتِعَاذَةِ مِنْ وَسْوَسَةِ الْجِنِّ فَقَطْ مَعَ أَنَّ وَسْوَسَةَ نَفْسِهِ وَشَيَاطِينِ الْإِنْسِ هِيَ مِمَّا تَضُرُّهُ وَقَدْ تَكُونُ أَضَرَّ عَلَيْهِ مِنْ وَسْوَسَةِ الْجِنِّ. وَأَمَّا قول الْفَرَّاءِ: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ: الطَّائِفَتَيْنِ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَأَنَّهُ سَمَّى الْجِنَّ نَاسًا كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالًا وَسَمَّاهُمْ نَفَرًا فَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ لَفْظَ النَّاسِ أَشْهَرُ وَأَظْهَرُ وَأَعْرَفُ مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى تَنْوِيعِهِ إلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تعالى لَفْظَ النَّاسِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَأَيْضًا فَكَوْنُهُ يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الطَّائِفَتَيْنِ صِفَةُ تَوْضِيحٍ وَبَيَانٍ وَلَيْسَ وَسْوَسَةُ الْجِنِّ مَعْرُوفَةً عِنْدَ النَّاسِ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ هَذَا بِخَبَرِ وَلَا خَبَرَ هُنَا ثُمَّ قَدْ قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} فَكَيْفَ يَكُونُ لَفْظُ النَّاسِ عَامًّا لِلْجِنَّةِ وَالنَّاسِ وَكَيْفَ يَكُونُ قَسِيمُ الشَّيْءِ قِسْمًا مِنْهُ فَهُوَ يَجْعَلُ النَّاسَ قَسِيمَ الْجِنِّ وَيَجْعَلُ الْجِنَّ نَوْعًا مِنْ النَّاسِ وَهَذَا كَمَا يَقول: أَكْرَمُ الْعَرَبِ مِنْ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِ فَهَلْ يَقول هَذَا أحد وَإِذَا سَمَّاهُمْ اللَّهُ تعالى رِجَالًا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُسَمَّوْنَ نَاسًا وَإِنْ قُدِّرَ أَنَّهُ يُقال جَاءَ نَاسٌ مِنْ الْجِنِّ فَذَاكَ مَعَ التَّقْيِيدِ كَمَا يُقال إنْسَانٌ مِنْ طِينٍ وَمَاءٍ دَافِقٍ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ هَذَا أَنْ يَدْخُلُوا فِي لَفْظِ النَّاسِ وَقَدْ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحدة وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فَالنَّاسُ كُلُّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنْ آدَمَ وَحَوَّاءَ مَعَ أَنَّهُ سبحانه يُخَاطِبُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ. وَالرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم مَبْعُوثٌ إلَى الْجِنْسَيْنِ لَكِنَّ لَفْظَ النَّاسِ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْجِنَّ وَلَكِنْ يَقول يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
وَكَذَلِكَ قول الزَّجَّاجِ: أَنَّ الْمَعْنَى {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الَّذِي هُوَ الْجِنَّةُ وَمِنْ شَرِّ النَّاسِ فِيهِ ضَعْفٌ وَإِنْ كَانَ أَرْجَحَ مِنْ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ شَرَّ الْجِنِّ أَعْظَمُ مِنْ شَرِّ الْإِنْسِ فَكَيْفَ يُطْلِقُ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ جَمِيعِ النَّاسِ وَلَا يَسْتَعِيذُ إلَّا مِنْ بَعْضِ الْجِنِّ. وَأَيْضًا فَالْوَسْوَاسُ الْخَنَّاسُ إنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مِنْ الْجِنَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى قوله: {مِنَ الْجَنَّةِ} وَمِنْ {النَّاسِ} فَلماذا يَخُصُّ الِاسْتِعَاذَةَ مِنْ وَسْوَاسِ الْجِنَّةِ دُونَ وَسْوَاسِ النَّاسِ. وَأَيْضًا فَإِنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ الْمَعْطُوفُ اسْمًا كَانَ عَطْفُهُ عَلَى الْقَرِيبِ أَوْلَى كَمَا أَنَّ عَوْدَ الضَّمِيرِ إلَى الْأَقْرَبِ أَوْلَى إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ دَلِيلٌ يَقْتَضِي الْعَطْفَ عَلَى الْبَعِيدِ فَعَطْفُ النَّاسِ هُنَا عَلَى الْجِنَّةِ الْمُقِرُّونَ بِهِ أَوْلَى مِنْ عَطْفِهِ عَلَى الْوَسْوَاسِ.
وَيَكْفِي أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ يَقْرَءُونَ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْ زَمَنِ نَبِيِّهِمْ وَلَمْ يُنْقَلْ هَذَانِ الْقولانِ إلَّا عَنْ بَعْضِ النُّحَاةِ وَالْأَقْوَالُ الْمَأْثُورَةُ عَنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ لَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ هَذَا بَلْ إنَّمَا فِيهَا الْقول الَّذِي نَصَرْنَاهُ كَمَا فِي تَفْسِيرِ مَعْمَرٍ عَنْ قتادة {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قال: إنَّ فِي الْجِنِّ شَيَاطِينَ وَإِنَّ فِي الْإِنْسِ شَيَاطِينَ فَنَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ؛ فَبَيَّنَ قتادة أَنَّ الْمَعْنَى الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ.
وروى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قال: الْخَنَّاسُ الَّذِي يُوَسْوِسُ مَرَّةً وَيَخْنَسُ مَرَّةً مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَبَيَّنَ ابْنُ زَيْدٍ أَنَّ الْوَسْوَاسَ الْخَنَّاسَ مِنْ الصِّنْفَيْنِ وَكَانَ يُقال: شَيَاطِينُ الْإِنْسِ أَشَدّ عَلَى النَّاسِ مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ: شَيْطَانُ الْجِنِّ يُوَسْوِسُ وَلَا تَرَاهُ وَهَذَا يُعَايِنُك مُعَايَنَةً.
وعن ابْنِ جريج: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} قال: إنَّمَا وَسْوَاسَانِ فَوَسْوَاسٌ مِنْ الْجِنَّةِ فَهُوَ {الْخَنَّاسِ} وَوَسْوَاسُ مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَهُوَ قوله: {وَالنَّاسِ} وَهَذَا الْقول الثَّالِثُ وَإِنْ كَانَ يُشْبِهُ قول الزَّجَّاجِ فَهَذَا أَحْسَنُ مِنْهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ مِنْ النَّاسِ الْوَسْوَاسَ الَّذِي مِنْ نَفْسِ الْإِنْسَانِ فَمَعْنَاهُ أَحْسَنُ ذَكَرَ الثَّلَاثَةَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي الْآيَةِ {بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إلَهِ النَّاسِ} فَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ أَنْ يَسْتَعِيذَ النَّاسُ بِرَبِّهِمْ وَمَلِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ مِنْ شَرِّ مَا يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِهِمْ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ الْخَيْرُ الَّذِي يَنْفَعُهُمْ وَيُطْلَبُ مِنْهُ دَفْعُ الشَّرِّ الَّذِي يَضُرُّهُمْ وَالْوَسْوَاسُ أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ يَضُرُّهُمْ؛ لِأَنَّهُ مَبْدَأٌ لِلْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ وَعُقُوبَاتُ الرَّبِّ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأحدهِمْ ذَنْبٌ فَكُلُّ مَا يُصِيبُهُ نِعْمَةٌ فِي حَقِّهِ وَإِذَا اُبْتُلِيَ بِمَا يُؤْلِمُهُ فَإِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ دَرَجَتَهُ وَيَأْجُرُهُ إذَا قُدِّرَ عَدَمُ الذُّنُوبِ مُطْلَقًا لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِوَاقِعٍ مِنْهُمْ فَإِنَّ كُلَّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَاطِئِينَ التَّوَّابُونَ وَقَدْ قال تعالى: {وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}. فَغَايَةُ الْمُؤْمِنِينَ الْأَنْبِيَاءِ فَمِنْ دُونِهِمْ هِيَ التَّوْبَةُ.
قال اللَّهُ تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقال: نُوحٌ {رَبِّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وَقال إبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} وَقال مُوسَى: {أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ} وَدُعَاءُ نَبِيِّنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ.
فَكَانَ الْوَسْوَاسُ مَبْدَأَ كُلِّ شَرٍّ فَإِنْ كَانُوا قَدْ اسْتَعَاذُوا بِرَبِّهِمْ وَمَلِكِهِمْ وَإِلَهِهِمْ مِنْ شَرِّهِ فَقَدْ دَخَلَ فِي ذَلِكَ وَسْوَاسُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَسَائِرُ شَرِّ الْإِنْسِ إنَّمَا يَقَعُ بِذُنُوبِهِمْ فَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى أَعْمَالِهِمْ كَالشَّرِّ الَّذِي يَقَعُ مِنْ الْجِنِّ بِغَيْرِ الْوَسْوَاسِ وَكَمَا يَحْصُلُ مِنْ الْعُقُوبَاتِ السَّمَاوِيَّةِ وَهُمْ لَمْ يَسْتَعِيذُوا هُنَا مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ مُطْلَقًا كَمَا اسْتَعَاذُوا فِي سُورَةِ الْفَلَقِ بَلْ مِنْ الشَّرِّ الَّذِي يَكُونُ مَبْدَؤُهُ فِي نُفُوسِهِمْ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ رَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إلَهِ النَّاسِ يَسْتَعِيذُونَ بِهِ لِيُعِيذَهُمْ وَلِيُعِيذَ مِنْهُمْ وَهَذَا أَعَمُّ الْمَعْنَيَيْنِ فَذَلِكَ يَحْصُلُ بِإِعَاذَتِهِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْمُوَسْوِسِ فِي صُدُورِ النَّاسِ فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُوَسْوِسُ بِظُلْمِ النَّاسِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَبِإِغْوَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبِإِعَانَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ. فَمَا حَصَلَ لِإِنْسِيِّ شَرٌّ مِنْ إنْسِيٍّ إلَّا كَانَ مَبْدَؤُهُ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَإِلَّا فَمَا يَحْصُلُ مِنْ أَذَى بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ الْوَسْوَاسِ بَلْ كَانَ مِنْ الْوَحْيِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مَلَائِكَتَهُ كَانَ عَدْلًا كَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَجِهَادِ الْكُفَّارِ وَالِاقْتِصَاصِ مِنْ الظَّالِمِينَ فَهَذِهِ الْأُمُورُ فِيهَا ضَرَرٌ وَأَذًى لِلظَّالِمِينَ مِنْ الْإِنْسِ لَكِنَّ هِيَ بِوَحْيِ اللَّهِ لَا مِنْ الْوَسْوَاسِ وَهِيَ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ فِي حَقِّ عِبَادِهِ حَتَّى فِي حَقِّ الْمُعَاقَبِ فَإِنَّهُ إذَا عُوقِبَ كَانَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لَهُ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَإِلَّا كَانَ تَخْفِيفًا لِعَذَابِهِ فِي الْآخِرَةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى عَذَابِ مَنْ لَمْ يُعَاقَبْ فِي الدُّنْيَا.
وَلِهَذَا كَانَ مُحَمَّدٌ- صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً فِي حَقِّ الْعَالَمِينَ بِاعْتِبَارِ مَا حَصَلَ مِنْ الْخَيْرِ الْعَامِّ بِهِ وَمَا حَصَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ مِنْ سَعَادَةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ رَحْمَةٌ فَمِنْ قَبْلِهَا وَإِلَّا كَانَ هُوَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَمَعَ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ فَنَقَصَ شَرَّهُمْ وَعَجَزُوا عَمَّا كَانُوا يَفْعَلُونَهُ بِدُونِهِ وَقَتَلَ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ فَكَانَ تَعْجِيلُ مَوْتِهِمْ خَيْرًا مِنْ طُولِ عُمْرِهِمْ فِي الْكُفْرِ لَهُمْ وَلِلنَّاسِ فَكَانَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ بِكُلِّ اعْتِبَارٍ فَلَا يُسْتَعَاذُ مِنْهُ وَمِنْ أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ مِنْ النَّاسِ وَإِنْ كَانُوا يَفْعَلُونَ بِأَعْدَائِهِمْ مَا هُوَ أَذًى وَعُقُوبَةٌ وَأَلَمٌ لَهُمْ فَلَمْ تَبْقَ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ النَّاسِ إلَّا مِمَّا يَأْتِي بِهِ الْوَسْوَاسُ إلَيْهِمْ فَيُسْتَعَاذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إلَهِ النَّاسِ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِلْمُسْتَعِيذِ وَمِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ لِسَائِرِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَحْصُلَ مِنْهُمْ شَرٌّ لِلْمُسْتَعِيذِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ شَرٌّ إلَّا مِنْ الْوَسْوَاسِ كَانَتْ الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الَّذِي يُوَسْوِسُ لَهُمْ تَحْصِيلًا لِلْمَقْصُودِ وَكَانَ حَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَأَقْرَبَ إلَى الْعَدْلِ وَكَانَ مَخْرَجًا لِأَنْبِيَاءِ اللَّهِ وَأَوْلِيَائِهِ أَنْ يُسْتَعَاذَ مِنْ شَرِّهِمْ وَأَنْ يُقْرَنُوا بِالْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ وَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْضِيلًا لِلْجِنِّ عَلَى الْإِنْسِ وَهَذَا لَا يَقوله عَاقِلٌ..
فإن قيل: فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الِاسْتِعَاذَةِ مِنْ وَسْوَاسِ النَّاسِ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِوَسْوَاسِ الْجِنِّ. قِيلَ: بَلْ الْوَسْوَسَةُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ مِنْ الْجِنِّ وَنَوْعٌ مِنْ نُفُوسِ الْإِنْسِ. كَمَا قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} فَالشَّرُّ مِنْ الْجِهَتَيْنِ جَمِيعًا وَالْإِنْسُ لَهُمْ شَيَاطِينُ كَمَا لِلْجِنِّ شَيَاطِينُ وَالْوَسْوَسَةُ مِنْ جِنْسِ الْوَشْوَشَةِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ يُقال فُلَانٌ يُوَشْوِشُ فُلَانًا وَقَدْ وَشْوَشَهُ إذَا حَدَّثَهُ سِرًّا فِي أُذُنِهِ وَكَذَلِكَ الْوَسْوَسَةُ وَمِنْهُ وَسْوَسَةُ الْحُلِيِّ لَكِنْ هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَخَصُّ. ورَبُّ النَّاسِ: الَّذِي يُرَبِّيهِمْ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ- وَتَدْبِيرِهِ وَهُوَ رَبُّ الْعَالَمِينَ كُلِّهِمْ فَهُوَ الْخَالِقُ لِلْجَمِيعِ وَلِأَعْمَالِهِمْ.
{مَلِكِ النَّاسِ} الَّذِي يَأْمُرُهُمْ وَيَنْهَاهُمْ فَإِنَّ الْمَلِكَ يَتَصَرَّفُ بِالْكَلَامِ وَالْجَمَادُ لَا مَلِكَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِلُ الْخِطَابَ لَكِنْ لَهُ مَالِكٌ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَلِكُ لِمَنْ يَفْهَمُ عَنْهُ وَالْحَيَوَانُ يَفْهَمُ بَعْضَهُ عَنْ بَعْضٍ كَمَا قال: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ}، {قالتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ}. فَلِهَذَا كَانَ لَهُ مَلِكٌ مِنْ جِنْسِهِ وَمِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ مَلِكَهُمْ. وَالْإِلَهُ: هُوَ الْمَعْبُودُ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْإِرَادَاتِ وَالْأَعْمَالِ كُلِّهَا كَمَا قَدْ بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّمَا خَصَّ النَّاسَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْتَعِيذُونَ أَوْ لِأَنَّهُمْ الْمُسْتَعَاذُ مِنْ شَرِّهِمْ ذَكَرَهُمَا أَبُو الْفَرَجِ وَلَيْسَ لَهُمَا وَجْهٌ فَإِنَّ وَسْوَاسَ الْجِنِّ أَعْظَمُ وَلَمْ يَذْكُرْهُ بَلْ ذَكَرَ النَّاسّ لِأَنَّهُمْ الْمُسْتَعِيذُونَ فَيَسْتَعِيذُونَ بِرَبِّهِمْ الَّذِي يَصُونُهُمْ وَبِمَلِكِهِمْ الَّذِي أَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَبِإِلَهِهِمْ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ مِنْ شَرِّ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَعِيذُونَ أَيْضًا مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ النَّاسِ مِنْهُمْ وَمِنْ الْجِنَّةِ فَإِنَّهُ أَصْلُ الشَّرِّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنْهُمْ وَاَلَّذِي يَرُدُّ عَلَيْهِمْ.
فَصْلٌ:
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ بَعْضُ هَذِهِ الِاسْتِعَاذَةِ وَاَلَّتِي قَبِلَهَا كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَمْ يَسْتَعِذْ الْمُسْتَعِيذُونَ بِمِثْلِهِمَا فَإِنَّ الْوَسْوَاسَ أَصْلُ كُلِّ كُفْرٍ وَفُسُوقٍ وَعِصْيَانٍ فَهُوَ أَصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ فَمَتَى وُقِيَ الْإِنْسَانُ شَرَّهُ وَقَى عَذَابَ جَهَنَّمَ وَعَذَابَ الْقَبْرِ وَفِتْنَةَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَفِتْنَةَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ فَإِنَّ جَمِيعَ هَذِهِ إنَّمَا تَحْصُلُ بِطَرِيقِ الْوَسْوَاسِ وَوُقِيَ عَذَابَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُعَذَّبُ عَلَى الذُّنُوبِ وَأَصْلُهَا مِنْ الْوَسْوَاسِ ثُمَّ إنْ دَخَلَ فِي الْآيَةِ وَسْوَاسٌ غَيْرُهُ بِحَيْثُ يَكُونُ قوله: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ} اسْتِعَاذَةً مِنْ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يَعْرِضُ لَهُ وَاَلَّذِي يَعْرِضُ لِلنَّاسِ بِسَبَبِهِ فَقَدْ وَقَى ظُلْمَهُمْ وَإِنْ كَانَ إنَّمَا يُرِيدُ وَسْوَاسَهُ فَهُمْ إنَّمَا يُسَلِّطُونَ عَلَيْهِ بِذُنُوبِهِ وَهِيَ مِنْ وَسْوَاسِهِ قال تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} وَقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} وَقال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}. وَالْوَسْوَاسُ مِنْ جِنْسِ الْحَدِيثِ وَالْكَلَامِ؛ وَلِهَذَا قال الْمُفَسِّرُونَ فِي قوله: {مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} قالوا: مَا تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ». وَهُوَ نَوْعَانِ: خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ. فَالْخَبَرُ: إمَّا عَنْ مَاضٍ وَإِمَّا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ. فَالْمَاضِي يُذَكِّرُهُ بِهِ وَالْمُسْتَقْبَلُ يُحَدِّثُهُ بِأَنْ يَفْعَلَ هُوَ أُمُورًا أَوْ أَنَّ أُمُورًا سَتَكُونُ بِقَدَرِ اللَّهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ فَهَذِهِ الْأَمَانِيُّ وَالْمَوَاعِيدُ الْكَاذِبَةُ وَالْإِنْشَاءُ أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ. وَالشَّيْطَانُ تَارَةً يُحَدِّثُ وَسْوَاسَ الشَّرِّ وَتَارَةً يَنْسَى الْخَيْرَ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَا يَشْغَلُهُ بِهِ مِنْ حَدِيثِ النَّفْسِ.
قال تعالى فِي النِّسْيَانِ: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَقال فَتَى مُوسَى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إلَّا الشَّيْطَانُ} وَقال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ}. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «إذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ فَإِذَا قُضِيَ التَّأْذِينُ أَقْبَلَ فَإِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ فَإِذَا قُضِيَ التَّثْوِيبُ أَقْبَلَ حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ فَيَقول: اُذْكُرْ كَذَا اُذْكُرْ كَذَا لِمَا لَمْ يَذْكُرْ حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ لَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى» فَالشَّيْطَانُ ذَكَرَهُ بِأُمُورٍ مَاضِيَةٍ حَدَّثَ بِهَا نَفْسَهُ مِمَّا كَانَتْ فِي نَفْسِهِ مِنْ أَفْعَالِهِ وَمِنْ غَيْرِ أَفْعَالِهِ فَبِتِلْكَ الْأُمُورِ نَسِيَ الْمُصَلِّي كَمْ صَلَّى وَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى فَإِنَّ النِّسْيَانَ أَزَالَ مَا فِي النَّفْسِ مِنْ الذِّكْرِ وَشَغَلَهَا بِأَمْرٍ آخَرَ حَتَّى نَسْي الْأَوَّلَ. وَأَمَّا إخْبَارُهُ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ الْمَوَاعِيدِ وَالْأَمَانِيِّ فَكَقوله: {وَقال الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ} وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ وَقال تعالى: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إلَّا غُرُورًا أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا} وَقال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} فَفِي هَذِهِ أَيْضًا أَمْرُهُ وَوَعْدُهُ.
وقال مُوسَى لَمَّا قَتَلَ الْقِبْطِيَّ: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ}. وَقَدْ قال غير واحد مِنْ الصَّحَابَةِ: كَأَبِي بَكْرٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ فِيمَا يَقولونَهُ بِاجْتِهَادِهِمْ: إنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَإِنْ كَانَ خَطًَا فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ. فَجَعَلُوا مَا يُلْقَى فِي النَّفْسِ مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي لَيْسَتْ مُطَابِقَةً مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا آثِمًا لِأَنَّهُ اسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ كَمَا لَا يَأْثَمُ بِالْوَسْوَاسِ الَّذِي يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَلَا بِمَا يُحَدِّثُ بِهِ نَفْسَهُ وَقَدْ قال الْمُؤْمِنُونَ: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وَقَدْ قال اللَّهُ: قَدْ فَعَلْت. وَالنِّسْيَانُ لِلْحَقِّ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالْخَطَأُ مِنْ الشَّيْطَانِ.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» وَلَمَّا نَامَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ قال: لِأَصْحَابِهِ: «ارْتَحِلُوا فَإِنَّ هَذَا مَكَانٌ حَضَرَنَا فِيهِ شَيْطَانٌ» وَقال: «إنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى بِلَالًا فَجَعَلَ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدِّئُ الصَّبِيَّ حَتَّى نَامَ»
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَكَّلَ بِلَالًا أَنْ يُوقِظَهُمْ عِنْدَ الْفَجْرِ وَالنَّوْمِ الَّذِي يَشْغَلُ عَمَّا أُمِرَ بِهِ وَالنُّعَاسُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنْ كَانَ مَعْفُوًّا عَنْهُ؛ وَلِهَذَا قِيلَ: النُّعَاسُ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَكَذَلِكَ الِاحْتِلَامُ فِي الْمَنَامِ مِنْ الشَّيْطَانِ وَالنَّائِمُ لَا قَلَمَ عَلَيْهِ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «الرُّؤْيَا ثَلَاثَةٌ: رُؤْيَا مِنْ اللَّهِ وَرُؤْيَا مِنْ الشَّيْطَانِ وَرُؤْيَا مَا يُحَدِّثُ بِهِ الْمَرْءُ نَفْسَهُ فِي الْيَقَظَةِ فَيَرَاهُ فِي النَّوْمِ» وَقَدْ قِيلَ: إنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ ابْنِ سِيرِين لَكِنَّ تَقْسِيمَ الرُّؤْيَا إلَى نَوْعَيْنِ: نَوْعٌ مِنْ اللَّهِ وَنَوْعٌ مِنْ الشَّيْطَانِ صَحِيحٌ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِلَا رَيْبٍ. فَهَذَانِ النَّوْعَانِ: مِنْ وَسْوَاسِ النَّفْسِ وَمِنْ وَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ وَكِلَاهُمَا مَعْفُوٌّ عَنْهُ فَإِنَّ النَّائِمَ قَدْ رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْهُ وَوَسْوَاسُ الشَّيْطَانِ يَغْشَى الْقَلْبَ كَطَيْفِ الْخَيَالِ فَيُنْسِيهِ مَا كَانَ مَعَهُ مِنْ الْإِيمَانِ حَتَّى يَعْمَى عَنْ الْحَقِّ فَيَقَعُ فِي الْبَاطِلِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُتَّقِينَ كَانَ كَمَا قال اللَّهُ: {إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} فَإِنَّ الشَّيْطَانَ مَسَّهُمْ بِطَيْفٍ مِنْهُ يَغْشَى الْقَلْبَ وَقَدْ يَكُونُ لَطِيفًا وَقَدْ يَكُونُ كَثِيفًا إلَّا أَنَّهُ غِشَاوَةٌ عَلَى الْقَلْبِ تَمْنَعُهُ إبْصَارُ الْحَقِّ.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا أَذْنَبَ نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ. فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ وَإِنْ زَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الران الَّذِي قال اللَّهُ تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}». لَكِنَّ طَيْفَ الشَّيْطَانِ غَيْرُ رَيْنِ الذُّنُوبِ هَذَا جَزَاءٌ عَلَى الذَّنَبِ وَالْغَيْنِ أَلْطَفُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهُ ليغان عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً» فَالشَّيْطَانُ يُلْقِي فِي النَّفْسِ الشَّرَّ وَالْمَلَكُ يُلْقِي الْخَيْرَ وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أحد إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَقَرِينُهُ مِنْ الْجِنِّ».
قالوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قال: «وَإِيَّايَ إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ وَفِي رِوَايَةٍ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ» أَيْ اسْتَسْلَمَ وَانْقَادَ. وَكَانَ ابْنُ عُيَيْنَة يَرْوِيه فَأَسْلَمَ بِالضَّمِّ وَيَقول: إنَّ الشَّيْطَانَ لَا يُسْلِمُ لَكِنَّ قوله فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ يَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَهَذَا إسْلَامُهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ خُضُوعِهِ وَذِلَّتِهِ لَا عَنْ إيمَانِهِ بِاَللَّهِ كَمَا يَقْهَرُ الرَّجُلُ عَدُوَّهُ الظَّاهِرَ وَيَأْسِرُهُ وَقَدْ عَرَفَ الْعَدُوَّ الْمَقْهُورَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاهِرَ يَعْرِفُ مَا يُشِيرُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِّ. فَلَا يَقْبَلُهُ بَلْ يُعَاقِبُهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَحْتَاجُ لِانْقِهَارِهِ مَعَهُ إلَى أَنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْهِ إلَّا بِخَيْرٍ لِذِلَّتِهِ وَعَجْزِهِ لَا لِصَلَاحِهِ وَدِينِهِ؛ وَلِهَذَا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَلَا يَأْمُرُنِي إلَّا بِخَيْرِ» وَقال ابْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةً وَإِنَّ لِلشَّيْطَانِ لَمَّةً فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إيعَادٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ. وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إيعَادٌ بِالشَّرِّ وَتَكْذِيبُ بِالْحَقِّ. وَقَدْ قال تعالى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} أَيْ يُخَوِّفُكُمْ أَوْلِيَاؤُهُ بِمَا يَقْذِفُ فِي قُلُوبِكُمْ مِنْ الْوَسْوَسَةِ الْمُرْعِبَةِ كَشَيْطَانِ الْإِنْسِ الَّذِي يُخَوِّفُ مِنْ الْعَدُوِّ فَيَرْجُفُ وَيَخْذُلُ. وَعَكْسُ هَذَا قوله تعالى: {إذْ يُوحِي رَبُّكَ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} وَقال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقول الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} وَقال تعالى: {وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} وَالتَّثَبُّتُ جَعَلَ الْإِنْسَانَ ثَابِتًا لِأَمْرِ تَابَا وَذَلِكَ بِإِلْقَاءِ مَا يُثْبِتُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ كَمَا قال ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّةُ الْمَلَكِ وَعْدٌ بِالْخَيْرِ وَتَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ فمتى عَلِمَ الْقَلْبُ أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ الرَّسُولُ حَقٌّ صَدَّقَهُ وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ وَعَدَهُ بِالتَّصْدِيقِ وَثِقَ بِوَعْدِ اللَّهِ فَثَبَتَ فَهَذَا يَثْبُتُ بِالْكَلَامِ كَمَا يُثَبِّتُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ فِي أَمْرٍ قَدْ اضْطَرَبَ فِيهِ بِأَنْ يُخْبِرَهُ بِصِدْقِهِ وَيُخْبِرَهُ. بِمَا يُبَيِّنُ لَهُ أَنَّهُ مَنْصُورٌ فَيَثْبُتُ وَقَدْ يَكُونُ التَّثَبُّتُ بِالْفِعْلِ بِأَنْ يُمْسِكَ الْقَلْبَ حَتَّى يَثْبُتَ كَمَا يَمْسِكُ الْإِنْسَانُ الْإِنْسَانَ حَتَّى يَثْبُتَ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَأَلَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِّلَ إلَيْهِ وَمَنْ لَمْ يَسْأَلْ الْقَضَاءَ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» فَهَذَا الْمَلَكُ يَجْعَلُهُ سَدِيدَ الْقول بِمَا يُلْقِي فِي قَلْبِهِ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْحَقِّ وَالْوَعْدِ بِالْخَيْرِ. وَقَدْ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصَّلَاةَ سَبَبٌ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَقَدْ ذَكَرَ إخْرَاجَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ فِي غَيْرِ آيَةٍ. كَقوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إلَى الظُّلُمَاتِ} وَقال: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ} وَقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} وَفِي الْحَدِيثِ «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ» وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا بِتَعْلِيمِهِ الْخَيْرَ يُخْرِجُ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ وَلِهَذَا كَانَ الرَّسُولُ أَحَقَّ النَّاسِ بِكَمَالِ هَذِهِ الصَّلَاةِ كَمَا قال تعالى: {إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}. وَالصَّلَاةُ هِيَ الدُّعَاءُ إمَّا بِخَيْرٍ يَتَضَمَّنُ الدُّعَاءَ وَإِمَّا بِصِيغَةِ الدُّعَاءِ فَالْمَلَائِكَةُ يَدْعُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «وَالْمَلَائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أحدكُمْ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُحْدِثْ» فَبَيَّنَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ قولهمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. وَفِي الْأَثَرِ «إنَّ الرَّبَّ يُصَلِّي فَيَقول: سَبَقَتْ- أَوْ غَلَبَتْ- رَحْمَتِي غَضَبِي».
وَهَذَا كَلَامُهُ سبحانه هُوَ خَبَرٌ وَإِنْشَاءٌ يَتَضَمَّنُ أَنَّ الرَّحْمَةَ تَسْبِقُ الْغَضَبَ وَتَغْلِبُهُ وَهُوَ سبحانه لَا يَدْعُو غَيْرَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَمَا يَدْعُوهُ الْمَلَائِكَةَ وَغَيْرَهُمْ مِنْ الْخَلْقِ بَلْ طَلَبَهُ بِأَمْرِهِ وَقوله وَقَسَمِهِ كَقوله: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا. وَقوله: كُنْ فَيَكُونُ؛ وَقوله: لَأَفْعَلَنَّ كَذَا قَسَمٌ مِنْهُ كَقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} وَقوله: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقول مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا} وَقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} وَهَذَا وَعْدٌ مُؤَكَّدٌ بِالْقَسَمِ بِخِلَافِ قوله: {إنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فَإِنَّ هَذَا وَعْدٌ وَخَبَرٌ لَيْسَ فِيهِ قَسَمٌ لَكِنَّهُ مُؤَكَّدٌ بِاللَّامِ الَّتِي يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ جَوَابَ قَسَمٍ وَقوله: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} وَقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إحدى الطَّائِفَتَيْنِ} وَنَحْوُ ذَلِكَ وَعْدٌ مُجَرَّدٌ. وَقَدْ قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَى الْبَشَرِ تَارَةً وَحْيًا مِنْهُ وَتَارَةً يُرْسِلُ رَسُولًا فَيُوحِي إلَى الرَّسُولِ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ.
وَالْمَلَائِكَةُ رُسُلُ اللَّهِ. وَلَفْظُ الْمَلَكِ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الرِّسَالَةِ فَإِنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ مَلْأَك عَلَى وَزْنِ مفعل لَكِنْ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ خُفِّفَتْ. بِأَنْ أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الْهَمْزَةِ عَلَى السَّاكِنِ قَبْلَهَا وَحُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَمَلَاك مَأْخُوذٌ مِنْ الْمَأْلُك وَالْمَلْأَك بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ وَاللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهُوَ الرِّسَالَةُ وَكَذَلِكَ الْأَلُوكَةُ بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ عَلَى اللَّامِ قال الشَّاعِرُ:
أَبْلِغْ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكًا ** أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي

وَهَذَا بِتَقْدِيمِ الْهَمْزَةِ. لَكِنَّ الْمَلَكَ هُوَ بِتَقْدِيمِ اللَّامِ عَلَى الْهَمْزَةِ وَهَذَا أَجْوَدُ فَإِنَّ نَظِيرَهُ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لَاكَ يَلُوكُ إذَا لَاكَ الْكَلَامَ وَاللِّجَامَ وَالْهَمْزُ أَقْوَى مِنْ الْوَاوِ وَيَلِيهِ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَوْسَطِ: أَكَلَ يَأْكُلُ فَإِنَّ الْآكِلَ يَلُوكُ مِمَّا يَدْخُلُهُ فِي جَوْفِهِ مِنْ الْغِذَاءِ وَالْكَلَامِ وَالْعِلْمِ مَا يَدْخُلُ فِي الْبَاطِنِ وَيُغَذِّي بِهِ صَاحِبَهُ قال عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: إنَّ كُلَّ آدِبٍ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى مَأْدُبَتُهُ وَإِنَّ مَأْدُبَةَ اللَّهِ القرآن. وَالْآدِبُ الْمُضِيفُ وَالْمَأْدُبَةُ الضِّيَافَةُ وَهُوَ مَا يُجْعَلُ مِنْ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ. فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ ضَيَّفَ عِبَادَهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي أَنْزَلَهُ إلَيْهِمْ فَهُوَ غِذَاءُ قُلُوبِهِمْ وَقُوتِهَا وَهُوَ أَشَدُّ انْتِفَاعًا بِهِ وَاحْتِيَاجًا إلَيْهِ مِنْ الْجَسَدِ بِغِذَائِهِ.
وقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّبَّانِيُّونَ هُمْ الَّذِينَ يُغَذُّونَ النَّاسَ بِالْحِكْمَةِ وَيُرَبُّونَهُمْ عَلَيْهَا وَقَدْ قال صلى الله عليه وسلم: «إنِّي أَبِيت عِنْدَ رَبِّي يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِي» وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى أَنَّ القرآن شِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَالنَّاسُ إلَى الْغِذَاءِ أَحْوَجُ مِنْهُمْ إلَى الشِّفَاءِ فِي الْقُلُوبِ وَالْأَبْدَانِ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم قال: «مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَصَابَ أَرْضًا فَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَأَنْبَتَتْ الْكَلَأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ أَمْسَكَتْ الْمَاءَ فَشَرِبَ النَّاسُ وَسَقُوا وَزَرَعُوا وَكَانَتْ مِنْهَا طَائِفَةٌ إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً وَلَا تُنْبِتُ كَلًَا. فَذَلِكَ مِثْلُ مِنْ فَقِهَ فِي دِينِ اللَّهِ وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ وَمَثَلُ مِنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي أُرْسِلْت بِهِ». فَأَخْبَرَ أَنَّ مَا بُعِثَ بِهِ لِلْقُلُوبِ كَالْمَاءِ لِلْأَرْضِ تَارَةً تَشْرَبُهُ فَتَنْبُتُ وَتَارَةً تَحْفَظُهُ وَتَارَةً لَا هَذَا وَلَا هَذَا وَالْأَرْضُ تَشْرَبُ الْمَاءَ وَتُغْتَذَى بِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْخَيْرُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تعالى أَنَّهُ رُوحٌ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ فَقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وَإِذَا كَانَ مَا يُوحِيهِ إلَى عِبَادِهِ تَارَةً يَكُونُ بِوَسَاطَةِ مَلَكٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَسَاطَةٍ فَهَذَا لِلْمُؤْمِنِينَ كُلِّهِمْ مُطْلَقًا لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} وَقال تعالى: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ} وَإِذَا كَانَ قَدْ قال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إلَى النَّحْلِ} الْآيَةَ. فَذَكَرَ أَنَّهُ يُوحِي إلَيْهِمْ فَإِلَى الْإِنْسَانِ أَوْلَى وَقال تعالى: {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} وَقَدْ قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} فَهُوَ سبحانه يُلْهِمُ الْفُجُورَ وَالتَّقْوَى لِلنَّفْسِ وَالْفُجُورُ يَكُونُ بِوَاسِطَةِ الشَّيْطَانِ وَهُوَ إلْهَامُ وَسْوَاسٍ وَالتَّقْوَى بِوَاسِطَةِ مَلَكٍ وَهُوَ إلْهَامُ وَحْيٍ هَذَا أَمْرٌ بِالْفُجُورِ وَهَذَا أَمْرٌ بِالتَّقْوَى وَالْأَمْرُ لابد أَنْ يَقْتَرِنَ بِهِ خَبَرٌ.
وَقَدْ صَارَ فِي الْعُرْفِ لَفْظُ الْإِلْهَامِ إذَا أُطْلِقَ لَا يُرَادُ بِهِ الْوَسْوَسَةُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ إلْهَامِ الْوَحْي وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ. فَالْمَأْمُورُ بِهِ إنْ كَانَ تَقْوَى اللَّهِ فَهُوَ مِنْ إلْهَامِ الْوَحْيِ وَإِنْ كَانَ مِنْ الْفُجُورِ فَهُوَ مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَبَيْنَ الْوَسْوَسَةِ الْمَذْمُومَةِ هُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ فَإِنْ كَانَ مِمَّا أُلْقِيَ فِي النَّفْسِ مِمَّا دَلَّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّهُ تَقْوَى لِلَّهِ فَهُوَ مِنْ الْإِلْهَامِ الْمَحْمُودِ وَإِنْ كَانَ مِمَّا دَلَّ عَلَى أَنَّهُ فُجُورٌ فَهُوَ مِنْ الْوَسْوَاسِ الْمَذْمُومِ وَهَذَا الْفَرْقُ مُطَّرِدٌ لَا يَنْتَقِضُ وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو حَازِمٍ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ فَقال: مَا كَرِهَتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْهُ وَمَا أَحَبَّتْهُ نَفْسُك لِنَفْسِك فَهُوَ مِنْ نَفْسِك فَانْهَهَا عَنْهُ.
وَقَدْ تَكَلَّمَ النُّظَّارُ فِي الْعِلْمِ الْحَاصِلِ فِي الْقَلْبِ عَقِبَ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَذَكَرُوا فِيهِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو حَامِدٍ- فِي مُسْتَصْفَاهُ- وَغَيْرُهُ قول الْجَهْمِيَّة وَقول الْقَدَرِيَّةِ وَقول الْفَلَاسِفَةِ. وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ لَا يَذْكُرُ إلَّا الْقوليْنِ: قول الْجَهْمِيَّة وَقول الْقَدَرِيَّةِ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ فِي كُتُبِهِمْ مَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ يَعْرِفُونَهُ تَكَلَّمَ فِي هَذَا وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ إلَّا هَؤُلَاءِ وَالْمَسْأَلَةُ هِيَ مِنْ فُرُوعِ الْقَدَرِ فَإِنَّ الْحَاصِلَ فِي نَفْسٍ حَادِثٍ فِيهَا فَالْقول فِيهِ كَالْأَقْوَالِ فِي أَمْثَالِهِ. وَمَذْهَبُ جَهْمٍ وَمَنْ وَافَقَهُ كَأَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَكَثِيرٍ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ الْمُثَبِّتَةِ هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ؛ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ أَفْعَالِ الْعِبَادِ لَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ سَبَبًا وَلَا قُدْرَةً مُؤَثِّرَةً وَلَا حِكْمَةً لِفِعْلِ الرَّبِّ فَأَنْكَرَ الطَّبَائِعَ وَالْقُوَى الَّتِي فِي الْأَعْيَانِ وَأَنْكَرَ الْأَسْبَابَ وَالْحُكْمَ فَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لِشَيْءِ سَبَبًا. بَلْ يَقول هَذَا حَاصِلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَلَمْ يَذْكُرُوا لَهُ سَبَبًا وَهُمْ صَادِقُونَ فِي إضَافَتِهِ إلَى قَدَرِهِ وَأَنَّهُ خَالِقُهُ خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ لَكِنَّ مِنْ تَمَامِ الْمَعْرِفَةِ إثْبَاتُ الْأَسْبَابِ وَمَعْرِفَتُهَا. وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ: فَبَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا تَولد عَنْ فِعْلِ الْعَبْدِ فَهُوَ فِعْلُهُ لَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ كَالشِّبَعِ وَالرِّيِّ وَزَهُوقِ الرُّوحِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَقالوا: هَذَا الْعِلْمُ مُتَولد عَنْ نَظَرِ الْعَبْدِ أَوْ تَذَكُّرِ النَّظَرِ. والمتفلسفة بَنَوْهُ عَلَى أَصْلِهِمْ: فِي أَنَّ مَا يَحْدُثُ مِنْ الصُّوَرِ هُوَ مِنْ فَيْضِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ الْمَوَادِّ الْقَابِلَةِ فَقالوا: يَحْصُلُ فِي نُفُوسِ الْبَشَرِ مِنْ فَيْضِ الْعَقْلِ الْفَعَّالِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِ النَّفْسِ بِاسْتِحْضَارِ الْمُقْدِمَتَيْنِ وَهَذَا الْقول خَطَأٌ وَاَلَّذِي قَبْلَهُ أَقْرَبُ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا تَحْقِيقُ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ. وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالْإِنْسِ مَلَائِكَةً وَشَيَاطِينَ يُلْقُونَ فِي قُلُوبِهِمْ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ فَالْعِلْمُ الصَّادِقُ مِنْ الْخَيْرِ وَالْعَقَائِدِ الْبَاطِلَةِ مِنْ الشَّرِّ كَمَا قال ابْنُ مَسْعُودٍ: لَمَّةُ الْمَلَكِ تَصْدِيقٌ بِالْحَقِّ وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ تَكْذِيبٌ بِالْحَقِّ وَكَمَا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي الْقَاضِي: «أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ» وَكَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُوحِي إلَى الْبَشَرِ مَا تُوحِيهِ وَإِنْ كَانَ الْبَشَرُ لَا يَشْعُرُ بِأَنَّهُ مِنْ الْمَلَكِ كَمَا لَا يَشْعُرُ بِالشَّيْطَانِ الْمُوَسْوِسِ لَكِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُكَلِّمُ الْبَشَرَ وَحْيًا وَيُكَلِّمُهُ بِمَلَكِ يُوحِي بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ وَالثَّالِثُ التَّكْلِيمُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ وَقَدْ قال بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ فِي الْمَنَامِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الْفَرَجِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. فَإِنَّ الْمَنَامَ تَارَةً يَكُونُ مِنْ اللَّهِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ النَّفْسِ وَتَارَةً يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَهَكَذَا مَا يُلْقَى فِي الْيَقَظَةِ. وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ. وَلِهَذَا كَانَتْ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيًا كَمَا قال ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَقرأ قوله: {إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ رَأَى رُؤْيَا كَانَتْ وَحْيًا فَكَذَلِكَ لَيْسَ كُلُّ مَنْ أَلْقِي فِي قَلْبِهِ شَيْءٌ يَكُونُ وَحْيًا وَالْإِنْسَانُ قَدْ تَكُونُ نَفْسُهُ فِي يَقَظَتِهِ أَكْمَلَ مِنْهَا فِي نَوْمِهِ كَالْمُصَلِّي الَّذِي يُنَاجِي رَبَّهُ فَإِذَا جَازَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ النَّوْمِ فَلماذا لَا يُوحَى إلَيْهِ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ كَمَا أَوْحَى إلَى أُمِّ مُوسَى وَالْحَوَارِيِّينَ وَإِلَى النَّحْلِ لَكِنْ لَيْسَ لِأحد أَنْ يُطْلِقَ الْقول عَلَى مَا يَقَعُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ وَحْيٌ لَا فِي يَقَظَةٍ وَلَا فِي الْمَنَامِ إلَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْوَسْوَاسَ غَالِبٌ عَلَى النَّاسِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقال شَيْخُ الْإِسْلَامُ- قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ-:
فَصْلٌ: فِي (سُورَةِ الْفَلَقِ وَالنَّاسِ)
فِي (الْفَلَقِ) أَقْوَالٌ تَرْجِعُ إلَى تَعْمِيمٍ وَتَخْصِيصٍ فَإِنَّهُ فُسِّرَ بِالْخَلْقِ عُمُومًا وَفُسِّرَ بِكُلِّ مَا يُفْلَقُ مِنْهُ كَالْفَجْرِ وَالْحَبِّ وَالنَّوَى وَهُوَ غَالِبُ الْخَلْقِ وَفُسِّرَ بِالْفَجْرِ. وَأَمَّا تَفْسِيرُهُ بِالنَّارِ أَوْ بِجُبِّ أَوْ شَجَرَةٍ فِيهَا فَهَذَا مَرْجِعُهُ إلَى التَّوْقِيفِ. (وَالْغَاسِقُ) قَدْ رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ عَنْ عَائِشَةَ فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِي أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَظَرَ إلَى الْقَمَرِ وَقال لَهَا: «يَا عَائِشَةُ تَعَوَّذِي بِاَللَّهِ مِنْ هَذَا فَهَذَا الْغَاسِقُ إذَا وَقَبَ» قال ابْنُ قُتَيْبَةَ (الْغَاسِقُ): الْقَمَرُ إذَا كَسَفَتْ فَاسْوَدَّ وَمَعْنَى وَقَبَ دَخَلَ فِي الْكُسُوفِ. وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ وَاللُّغَةِ أَنَّ (الْغَاسِقَ) اللَّيْلُ، (وَقَبَ): دَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ فَأَظْلَمَ و(الْغَسَقُ) الظُّلْمَةُ.
وَقال الزَّجَّاجُ: الْغَاسِقُ الْبَارِدُ فَقِيلَ لِلَّيْلِ غَاسِقٌ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنْ النَّهَارِ أَوْ يُقال الْغَسَقُ السَّيَلَانُ وَالْإِحَاطَةُ وَغَسَقُ اللَّيْلِ سَيَلَانُهُ وَإِحَاطَتُهُ بِالْأَرْضِ وَإِذَا فُسِّرَ بِالْقَمَرِ فَقَدْ يُقال وُقُوبُهُ أَيْ دُخُولُهُ وَهُوَ دُخُولُهُ فِي الْكُسُوفِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَفْسِيرِهِ بِاللَّيْلِ وَبِالْقَمَرِ فَإِنَّ الْقَمَرَ آيَةُ اللَّيْلِ فَهُنَا ثَلَاثُ مَرَاتِبَ: اللَّيْلُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْقَمَرُ مُطْلَقًا ثُمَّ الْقَمَرُ حَالَ كُسُوفِهِ. وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِمَا ذُكِرَ فِي الْمُسْتَعَاذِ بِهِ فَإِنَّ عُمُومَ الْفَلَقِ لِلْخَلْقِ بِإِزَاءِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَخُصُوصُهُ بِالْفَجْرِ الَّذِي هُوَ ظُهُورُ النُّورِ بِإِزَاءِ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ الَّذِي هُوَ دُخُولُ الظَّلَامِ.
وقال ابْنُ زَيْدٍ: الْغَاسِقُ: الثُّرَيَّا إذَا سَقَطَتْ وَكَانَتْ الْأَسْقَامُ وَالطَّوَاعِينُ تَكْثُرُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَقَدْ تَقَعُ عِنْدَ طُلُوعِهَا وَيُشْبِهُ- وَاَللَّهُ أَعْلَمُ- أَنْ يَكُونَ مِنْ الْحِكْمَةِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ النُّورَ هُوَ جِنْسُ الْخَيْرِ وَالظُّلْمَةُ جِنْسُ الشَّرِّ وَفِي اللَّيْلِ يَقَعُ مِنْ الشُّرُورِ النَّفْسَانِيَّةِ مَا لَا يَقَعُ فِي النَّهَارِ وَالْقَمَرُ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ لاسيما حَالَ كُسُوفِهِ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّهُمَا آيَتَانِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ» وَالتَّخْوِيفُ إنَّمَا يَكُونُ بِانْعِقَادِ سَبَبِ الْخَوْفِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ سَبَبِ الْعَذَابِ أَوْ مَظِنَّتِهِ فَعُلِمَ أَنَّ الْكُسُوفَ مَظِنَّةُ حُدُوثِ عَذَابٍ بِأَهْلِ الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ عِنْدَ الْكُسُوفِ الصَّلَاةَ الطَّوِيلَةَ وَالصَّدَقَةَ وَالْعَتَاقَةَ وَالدُّعَاءَ لِدَفْعِ الْعَذَابِ وَكَذَلِكَ عِنْدَ سَائِرِ الْآيَاتِ الَّتِي هِيَ إنْشَاءُ الْعَذَابِ كَالزَّلْزَلَةِ وَظُهُورِ الْكَوَاكِبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَهُوَ أَقْرَبُ الْكَوَاكِبِ الَّتِي لَهَا تَأْثِيرٌ فِي الْأَرْضِ بِالتَّرْطِيبِ وَالْيُبْسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِهَذَا كَانَ الطَّالِبُونَ لِلْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ مِنْ الْكَوَاكِبِ إنَّمَا يَأْخُذُونَ الْأحداثَ بِحَسَبِ سَيْرِ الْقَمَرِ فَإِذَا كَانَ فِي شَرَفِهِ كَالسَّرَطَانِ كَانَ الْوَقْتُ عِنْدَهُمْ سَعِيدًا وَإِذَا كَانَ فِي الْعَقْرَبِ وَهُوَ هُبُوطُهُ كَانَ نَحْسًا فَهَذَا فِي عِلْمِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي عَمَلِهِمْ مِنْ السِّحْرِ وَغَيْرِهِ: الْقَمَرُ أَقْرَبُ الْمُؤَثِّرَاتِ حَتَّى صَنَّفُوا (مُصْحَفَ الْقَمَرِ) لِعِبَادَتِهِ وَتَسْبِيحِهِ فَوَقَعَ تَرْتِيبُ الْمُسْتَعَاذِ مِنْهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى كَمَالِ التَّرْتِيبِ انْتِقالا مِنْ الْأَعَمِّ الْأَعْلَى الْأَبْعَدِ إلَى الْأَخَصِّ الْأَقْرَبِ الْأَسْفَلِ فَجُعِلَتْ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ. الْأَوَّلُ: مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَقول الْحَسَنِ: إنَّهُ إبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ وَقول بَعْضِهِمْ إنَّهُ جَهَنَّمُ: ذُكِرَ لِلشَّرِّ الَّذِي هُوَ لَنَا شَرٌّ مَحْضٌ مِنْ الْأَرْوَاحِ وَالْأَجْسَامِ.
والثاني: شَرُّ الْغَاسِقِ إذَا وَقَبَ فَدَخَلَ فِيهِ مَا يُؤَثِّرُ مِنْ الْعَلَوِيَّاتِ فِي السُّفْلَيَاتِ مِنْ اللَّيْلِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَوَاكِبِ كَالثُّرَيَّا وَسُلْطَانِهِ الَّذِي هُوَ الْقَمَرُ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ سِحْرُ التمرسحات الَّذِي هُوَ أَعْلَى السِّحْرِ وَأَرْفَعُهُ.
الثَّالِثُ: شَرُّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ وَهُنَّ السَّوَاحِرُ اللَّوَاتِي يَتَصَوَّرْنَ بِأَفْعَالٍ فِي أَجْسَامٍ. وَالرَّابِعُ: الْحَاسِدُ وَهِيَ النُّفُوسُ الْمُضِرَّةُ سَفَهًا فَانْتَظَمَ بِذَلِكَ جَمِيعُ أَسْبَابِ الشُّرُورِ ثُمَّ خَصَّ فِي (سُورَةِ النَّاسِ) الشَّرَّ الصَّادِرَ مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَهُمْ الْأَرْوَاحُ الْمُضِرَّةُ.
فَصْلٌ:
وَتَظْهَرُ الْمُنَاسِبَةُ بَيْنَ السُّورَتَيْنِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَعَاذَ مِنْهُ هُوَ الشَّرُّ كَمَا أَنَّ الْمَطْلُوبَ هُوَ الْخَيْرُ: إمَّا مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ وَمَبْدَأُ فِعْلِهِ لِلشَّرِّ هُوَ الْوَسْوَاسُ الَّذِي يَكُونُ تَارَةً مِنْ الْجِنِّ وَتَارَةً مِنْ الْإِنْسِ وَحَسْمُ الشَّرِّ بِحَسْمِ أَصْلِهِ وَمَادَّتِهِ أَجْوَدُ مِنْ دَفْعِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ فَإِذَا أُعِيذَ الْعَبْدُ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي الصُّدُورِ فَقَدْ أُعِيذَ مِنْ شَرِّ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ فَهَذَا فِي فِعْلِ نَفْسِهِ وَتَعُمُّ الْآيَةُ أَيْضًا فِعْلَ غَيْرِهِ لِسُوءِ مَعَهُ فَكَانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ لِلشَّرِّ الصَّادِرِ مِنْ الْعَبْدِ وَأَمَّا الشَّرُّ الصَّادِرُ مِنْ غَيْرِهِ فَسُورَةُ (الْفَلَقِ) فَإِنَّ فِيهَا الِاسْتِعَاذَةُ مِنْ شَرِّ الْمَخْلُوقَاتِ عُمُومًا وَخُصُوصًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.